سؤال وجه لي كثيراً. وجوابي هو: نعم، بالتأكيد! أن تتحرك من مكانك وتخرج من مساحة راحتك وتُعرّض نفسك لتجارب لم تخضها من قبل بحد ذاته من أكبر فوائد الابتعاث، فكيف إن كنت ستنتقل إلى بلد آخر لتحصل على تعليم ذو نوعية جيدة، بالتأكيد فالفائدة هنا مضاعفة. إن كنت مستعداً لأن تكون مغامراً وتنطلق نحو التحديات التي ستواجهك، فأنا أشجعك بأن تأخذ هذه الخطوة المثيرة.
دائماً أتذكر هذه المعاني في أبيات الإمام الشافعي:
ما في المقام لذي عـقـل وذي أدب … من راحة فدع الأوطان واغتـرب
سافر تجد عوضـا عمن تفارقــه … وانْصَبْ فإن لذيذ العيش في النَّصب
إني رأيت ركـود الـماء يفســده … إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب
والأسد لولا فراق الغاب ما افترست … والسهم لولا فراق القوس لم يصب
والشمس لو وقفت في الفلك دائمة … لملَّها الناس من عجم ومن عـرب
والتِّبرُ كالتُّـرب مُلقى في أماكنـه … والعود في أرضه نوع من الحطب
فإن تغرّب هـذا عـَزّ مطلبـــه … وإن تغرب ذاك عـزّ كالذهــب
بالأخص كثيراً ما أستأنس باستحضار قوله: إني رأيت ركود الماء يفسده.. إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب.
فعندما تضع نفسك في نفس البيئة كل يوم، وتجلس مع نفس الأصدقاء ومع نفس الزملاء، وتمارس نفس المهام الروتينية، فإن هذا الوضع راكد جداً (رغم أنه مريح) لدرجة أنه خصب لتكون التعفنات النفسية. عندما تخرج لتبحث عن علاقات جديدة، ومهام جديدة، وتجارب جديدة، فإن ذلك سيكون خارج مساحة راحتك، ولكن هذا الوضع هو الذي سيجعلك تزيل القناع الذي تعودت أن تراه يغطي شخصيتك كل يوم، وستظهر نفسك التي كانت مختبئة من ورائه والتي اضطرت للخروج لأنك بحاجة إلى أن تحدد هويتك تجاه هذا الموقف الجديد.
المتعة ستجدها بعد مرور وقت من ابتعادك عن مساحة راحتك عندما تنظر إلى ما كنت معتاداً عليه من بُعد. وستتندر كيف كنت تعيش في الحال التي كنت فيها، ثم تتفكر فيما اكتشفته عن نفسك في الحال التي غدوت عليها.
من أمثلة مساحات الراحة التي قد تبتعد عنها حين تسافر هي أنك ستضطر أن تواجه مشاكلك من دون أن يتواجد حولك من تلقي باللوم عليه، بل عليك أن تستوعبها جميعها، وتبرمج نفسك على أنك أنت وحدك من يستطيع حلها. ومنها كذلك أنك ستقوم بالتواصل مع الآخرين بطريقة مختلفة عن طريقة تواصلك مع من اعتدت عليهم، مثل أن تتواصل مع من لا يستخدم اللباقة والاحترام في تبادل الحديث، وإنما يعاملك بمبدأ أن ما في قلبه على لسانه، وقد يعزو ذلك إلى أنها شفافية، ومثل أن تتواصل مع أشخاص لا تتحدث معهم بلغة العاطفة، أو بلغة الأعذار، وإنما بلغة المنطق والمسؤولية.
قد تؤلمك صدمة الموقف الأول، ربما ليس لأنك لا تعرف كيف تتصرف، وإنما لأن عليك أن تختار من تريد أن تكون في هذا الموقف. لذلك الاغتراب هو فرصة لأن تجدد نفسك، ومواقفك وأفكارك، وتستخرج ما كان راكداً من مهارات ومميزاتك.